دخل أحمد بن أيمن البصرة يوما , فصنع له مسلم بن عمران التاجر مأدبة طعام دعا إليه جماعة من وجوه التجار وأعيان الأدباء.
وكان لمسلم بن عمران ابنان غاية في الجمال والحٌسن كأنهما مغموسان في الجمال غمسا,وكان أحمد بن أيمن ينظر إليهما متعجبا ومندهشا من حُسنهما , وكان كلما أراد أن يبعد ناظريها عنهما عاد ناظره تلقائيا من عظيم حُسنهما.
وكان أبوهما ينظر إليه ويراقب نظراته لابنيه ,حتى قال أحمد بن أيمن: ما رأيت كاليوم قط دميتين لا تفتح الأعين على أجمل منهما؛
فالتفت إليه أبوهما وقال له : إني أحب أن تعوّذهما_يعني مخافة العين_ ,فعوّهما أحمد بن أيمن بالأذكار المأثورة, ثم قال : ما أظنك إلا قد أحسنت اختيار أمهما التي أنجبتهما لك , كأنك تزوجت ابنة قيصر حتى أنجبتهما لك في صيغتهما الملوكية من الحُسن والأدب والرونق.
فقال له مسلم : إذًا ماذا تقول لو أخبرتك أنني لا أحب إلا امرأة دميمة بدمامتها هي أحب الناس إليّ وأخفهن على قلبي ,وأصلحهن لي , ولا تساويها لا بنات قيصر ولا كسرى.
فاستعجب ابن أيمن لِما يسمع ودٌهش أيما دهشة وحزن أشد الحزن على أم الغلامين أن يكون هذا الرجل_والد الولدين_ قد فضّل وأحب تلك الدميمة وتركها هي بجمالها وحُسنها,فلم يستطع امساك نفسه وقال:والله لقد كفرت النعمة وغدرت وجحدت لأن أم هذين الغلامين فوق النساء إذ ظهر جمالها في ولديها .
فقال له مسلم بن عمران : والله إن الأمر كما ذركتُ لك فإني لا أحب إلا إمراة دميمة أنستني كل جميلة في النساء ولو جرأتُ ووصفتها لك لما خرج من فمي إلا كل لفظ قبيح لأصف لك مدى دمامتها , فهي ليست دميمة دمامة عادية بل هي في منتهى القبح, وليس لها في نفسي إلا الحب والحس الصادق.
فقال ابن أيمن: والله ماأظنك إلا شيطانا من الشياطين , وكيف تحتمل زوجتك حبك لتلك الدميمة, أهي بهيمة لا تعقل, أم أنت ساحر , أم فيك ما ليس في الناس , أم أنا لا افقه شيئا؟
فضحك مسلم وقال : إن لي خبرا عجيبا : كنت أتاجر مابين الأُبلّة والبصرة << مدينتان
وكنت أربح ولا أخسر , حتى كثر مالي , فأحببت أن أتوسع في تجارتي أكثر , وكنت شابا في أول هجمة الفتوة على الدنيا وأحب التعلم والأدب وجميل , فقلت لعلي أتاجر في الأفاق البعيدة فأرى الناس وعاداتهم وأتعلم علما وأعتبر بعبرة وفي نفس الوقت أتاجر وربما أجد الزوجة التي اشتهيها وأرغبها وكانت الصفات التي اريدها فيها تبلغ الغاية في كل شيء فلم أجدها لا في البصرة ولا في الأُبلّة , وجعلت أسافر من مكان إلى آخر حتى وصلت إلى بلخ << مدينة في أفغانستان وكان فيها عالم اسمه أبو عبد الله البلخي وكان من قبل عندنا في البصرة فلما سمعت عنه أردت أن أحضر له درسا لأنه قد كتب كتابا عنّا _أهل البصرة_ فدخلت وغذا به يتحدث عن أمر يهمني كثيرا , كان يتحدث عن جمال النساء , فسمعت منه كلاما لم أسمع ولم أقرأ مثله قط , حتى حفظته عن ظهر غيب من روعته. فقال ابن أيمن : والله لقد اشتقت لمعرفة ماقاله البلخي.
فقال مسلم: سمعت البلخي يتكلم عن الجمال والقبح فقال أولا من المعاني المهمة أن الجمال درجات , لكن الإسلام أصّل أصلا جديدا وهو أنه لا يسمي المرأة بالدمامة , نبقى نتحدث عن المرأة في درجات الجمال لا يمكن أن نحدث عنها في درجات القبح , لأنها مهما بلغت من صفات القبح تبقى جميلة وفيها من صفات الجمال, ثم قال أليست الجنة تحت أقدام الأمهات ؟!
فإذا كانت الجنة وهي أحسن مانعرف تحت أقدام امرأة , كيف يمكن أن تُوصف امرأة بأنها قبيحة أو دميمة, هل يجوز ذلك أدبا أو عقلا؟!
هل يستطيع انسان أن يصف أمه بأنها قبيحة؟!
تبقى الأم لأنها أم لها جمالها ويتعلق القلب بها حبا , فلا تُسمى دميمة حتى لو كانت كذلك , فهذا من الأدب والعقل.
ومن روعة الإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلّم وصّى بالنساء خيرا وهو في آخر حياته
فما زال يوصي بالنساء ويرفع شأنهن حتى كان آخر ما وصى به ثلاث كلمات، كان يتكلم بهن إلى أن تلجلج لسانه وخفى كلامه؛ جعل يقول : «الصلاة …الصلاة. وما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم مالا يطيقون؛ الله الله في النساء» .
قال الشيخ: كأن المرأة من حيث هي إنما هي صلاة تتعبد بها الفضائل، فوجبت رعايتها وتلقيها بحقها، وقد ذكر قبلها الرقيق، لأن الزواج بطبيعته نوع رق؛ ولكنه ختم بها وقد بدأ بالصلاة، لأن الزواج في حقيقته نوع عبادة.
قال الشيخ: ولو أن أماًّ كانت دميمة شوهاء في أعين الناس، لكانت مع ذلك في عين أطفالها أجمل من ملكة على عرشها؛
ثم قال الشيخ : إن الجمال الذي يقيس به الناس هو جمال الجسد , وبعض الناس قد يتعلق بامرأة لأنه رأى صورتها لم يرى الروح ولا الطباع ولا النفس ولا العقل وإنما رأى الجسد فقط, أليست هذه المسألة أقرب إلى البهيميةوالحيوانية لأنها مرتبطة بالغرائز والشهوات؟!
نحن لا نلغي الغرائز والشهوات وإنما هو جزء وليس كل شيئ.
ثم تابع الشيخ قوله :ولكن جمال المرأة الحقيقي هو في انسانيتها لا في حيوانيتها , فلو كانت المرأة بجسدها فقط عندها نكون قد نزلنا بالإنسان إلى درجة الحيوان , لأن القضية أصبحت جسد فقط.
أما المؤمن العاقل فهو الذي ينظر إلى معان أخرى شاملة للحياة بالإضافة إلى معان الجسد.
نحن لا نلغي مقاييس الجسد ولكن إذا كان هو الأساس والأهم عندنا عندها نكون أقرب إلى الحيوان.
ثم تابع الشيخ قوله: تخيلوا لو أن امرأة جسدها جميل لكن أخلاقها سيئة وعقلها جاهل وتصرفاتها هوجاء, وقارنوها بامرأة قد تكون مشوهة لكنها عاقلة وحكيمة وحبيبة ولطيفة ومراعية لزوجها,أيهم أقرب إلى النفس؟
إلا أصحاب النفوس المشوّهة المرتبطة بالحيوانية والغريزية.
إذًا فالمسألة قضية نسبية ولا بد ان ننظر إليها بهذين الأمرين.
فالمرأة مهما كانت جميلة فمصيرها أن تفقد هذا الجمال يوما , أي أنها لن تبقى بدرجة جمالها الخلابة.
لكن العقل والحكمة والروح والخلق هو الذي يبقى ويزداد مع الأيام في الغالب, فانظروا وتأملوا إلى بعد النظر وليس فقط إلى النظرة الحيوانية.
فالذي لا يرى من الجمال إلا الصورة فهذا إنسان ليس لديه بُعد نظر, ليست العينين هي التي تقرر أي الشيئين أجمل, لكن الحكم على الجمال ياتي من ثلاثة مصادر(العين والقلب والعقل)
فالعين قد لا تعجبها الصورة , ولكن القلب والعقل ثلثان وهما أعظم
(فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا).
فقام أحمد بن أيمن من مكانه بعدما سمع كلام الشيخ على لسان مسلم بن عمران ,وأخذ يدور في المجلس مما دخل قلبه ونفسه من روعة الحديث.
يقول مسلم بن عمران : فنظرت في شروطي في الزوجة التي أريدها , فإذا المقاييس انقلبت
فقلت: ان تزوجت يوما فما أبالي جمالا ولا قبحا بالعين , إنما اريد انسانية كاملة مني ومنها ومن أولادنا.
ثم رجعت إلى البصرة وقررت أسكن بها فزارني الناس , فبدأت أفكر أنني أريدها عاقلة رزينة ولكن أيضا لامانع ان كانت ذات حسب ونسب رفيع ليس شرطا أساسا ولكن إن توفر فهو خير , فبدأت أسأل فلم أجد أسرة حسيبة وصاحبة أموال مثل الأسرة التي منها جد هذين الولدين, فسالت هل عنده ابنة؟ فقالوا نعم ولكن هيهات أن يزوجكها فقد عرض كبار التجار أنفسهم عليها ولكن اباها رفضهم كلهم , فقلت في نفسي : لابد أن هذه الفتاة هي المثالية التي أبحث عنها من زمن,جميلة وصاحبة حسب ونسب , وقد بحثت عنها في كل مكان وهي قريبة مني في البصرة!
فقال أبو أيمن: قد علمنا خبرها وانك تزوجتها وانجبت لك هذين الغلامين في منتهى الجمال,
فماخبر تلك الدميمة التي أحببتها؟
فقال له مسلم : اصبر يارجل واسمع بقية القصة
فقال له أبو أيمن : هات ماعندك
فأكمل مسلم حديثه: فذهبت إلى هذا التاجر وقلت له أنا فلان بن فلان, وعرفته بنفسي , وقلت له أني أريد ابنته زوجة لي , فقال: أنا لا أستطيع أن أرد ولكنني أنصحك ألا تتزوجها, فتعجبت منه وسألته لماذا؟ فقال: ابنتي مكرمة ومعززة وتعيش ملكة في بيتها وأنا أخشى أنك لن تكرمها اكراما كافيا , فقلت له: سأكرمها ولها ماتريد فزوجنيها ,فقال لي : ابنتها لها مواصفات لا ترضيك فدعها في بيتها معززة , فازداد شوقي لأن أتزوجها, فقلت له : والله مهما كان فيها من صفات فأنا أريد أن أتزوجها فأهم ماأريده جمال النفس والخُلق,فوافقني وأتيته مع ملأ من التجار .
هنا قال له احمد بن أيمن: قد عرفنا والله خبرك مع هذه الحسناء فقل لنا خبر تلك الدميمة ولماذا أحببتها وفضلتها على هذه الحسيبة الجميلة؟!.
فقال له مسلم: مهلا فستنتهي القصة إليها, قد صبرت إلى الآن أفلا تصبر على كلمات تعرف بها من هذه الدميمة,فإني والله ماعرفتها إلا في العرس!
ثم أكمل:
وذهبت إليه مع ملأ من التجار فخطبنا وأكرم الضيوف ونحر لهم, ثم قال لي :إن أردت ان تدخل على زوجتك الآن فادخل ولا شيء يمنعك,فقلت له : هذا ما أحبه, وبعد ان ذهب الناس مازال يحدثني حتى جاء المغرب فصلى بي ثم , ثم بدأ يدعو ويدعو يدعو فتململت فكأن ابنته ستدخل إلى مصيبة لا عرس , ومازال يدعو حتى العشاء ثم قام وصلاها بي , وأخذ بيدي فأدخلني إلى دار قد فرشت بأحسن فرش، وبها خدم وجوار في نهاية من النظافة؛ فما استقر بي الجلوس حتى نهض وقال: أستودعك الله، وقدم الله لكما الخير وأحرز التوفيق.
ثم أقبل عليّ عجائز أصغرهن في الستين.
فصاح أحمد ابن أيمن: وهل دميمتك عجوز أيضا ....؟! ما أراك يابن عمران إلا قتلت أم الغلامين!
ثم أكم ابن عمران حديثه: ثم جاؤوا بزوجتي وأرخوا الستر علينا, وخلوت بزوجتي.
فصاح ابن أيمن وقد أكله الغيظ: لقد أطلت علينا، فستحكي لنا قصتك إلى الصباح، قد علمناها ويلك، فما خبر الدميمة الشوهاء؟
قال مسلم: لم تكن الدميمة الشوهاء إلا العروس!
فزاغت أعين الجماعة، وأطرق ابن أيمن إطراقة
ولكن الرجل مضى يقول: فقد كانت والله في منتهى القبح والدمامة ولكن لما نظرتها لم أر إلا ما كنت حفظته عن البلخي، ، وما أسرع ما قامت المسكينة فأكبت على يدي وقالت: ( يا سيدي، إني سر من أسرار والدي كتمه والدي وأفضى به إليك، إذ رآك أهلاً لستره عليه؛ فلا تخيب ظنه فيك، ولو كان الذي يُطلب من الزوجة حسن صورتها دون حسن تدبيرها وعفافها لعظمت محنتي، وأرجو من الله أن ترى من أخلاقي وعقلي مايغير نظرتك لي في حُسن الصورة وسأبلغ محبتك في كل ما تأمرني؛ ولو انك آذيتني لرأيت الأذى منك نعمة، فكيف إن وسعني كرمك وسترك؟ إنك لا تعامل الله بأفضل من أن تكون سبباً في سعادة بائسة مثلي. أفلا تحرص يا سيدي، على أن تكون هذا السبب الشريف )؟.
ثم قامت وجائتني بمال في كيس وقالت لي: استر عليّ وابقني زوجة لك وخذ هذا المال والجواهر والذهب وتزوج به ثلاثا فقد أباح الله لك ذلك.
والله لقد ملكت قلبي ملكاً لا تصل إليه حسناء بحسنها؛ فقلت لها: إن جزاء ما قدمت ما تسمعينه مني: ( والله لأجعلنك حظي من دنياي فيما يؤثره الرجل من المرأة ولأضربن على نفسي الحجاب ما تنظر نفسي إلى أنثى غيرك أبداً). ثم أتممتُ سرورها ، فحدثتها بما حفظته عن أبي عبد الله البلخي فأيقنت والله يا أحمد أنها نزلت مني في أرفع منازلها وجعلت تحسُن وتحسُن كالغصن الذي كان مجروداً ثم وخزته الخضرة من هنا وهناك.
وعاشرتها فهي أضبط النساء وأحسنهن تدبيراً وأشفقهن علي واجبهن لي وإذا راحتي وطاعتي أول أمرها وآخره وإذا عقلها وذكاؤها يظهران لي من جمال معانيها ما لا يزال يكثر ويكثر، فجعل القبح يقل ويقل وزال القبح باعتيادي رؤيته وبقيت المعاني على جمالها وصارت لي هذه الزوجة هي المرأة وفوق المرأة. ولما ولدت لي جاء ابنها رائع الصورة؛ فحدثتني أنها كانت لا تزال تتمنى على كرم الله وقدرته أن تتزوج وتلد أجمل الأولاد، ولم تدع ذلك من فكرها قط وألف لها عقلها صورة غلام تتمثله وما برحت تتمثله فإذا هي أيضاً كان لها شأن كشأني وكان فكرها عملاً يعمل في نفسها ويديرها ويصرفها .
ورزقني الله منها هذين الابنين الرائعين لك، فانظر؛ أي معجزتين من معجزات الإيمان. . !
فالقبح ليس قبح الجسد, ولكن القبح الحقيقي هو قبح العقل وقبح الروح وقبح الأخلاق وقبح العاطفة.
من كتاب وحي القلم لـــــ مصطفى الرافعي
وكان لمسلم بن عمران ابنان غاية في الجمال والحٌسن كأنهما مغموسان في الجمال غمسا,وكان أحمد بن أيمن ينظر إليهما متعجبا ومندهشا من حُسنهما , وكان كلما أراد أن يبعد ناظريها عنهما عاد ناظره تلقائيا من عظيم حُسنهما.
وكان أبوهما ينظر إليه ويراقب نظراته لابنيه ,حتى قال أحمد بن أيمن: ما رأيت كاليوم قط دميتين لا تفتح الأعين على أجمل منهما؛
فالتفت إليه أبوهما وقال له : إني أحب أن تعوّذهما_يعني مخافة العين_ ,فعوّهما أحمد بن أيمن بالأذكار المأثورة, ثم قال : ما أظنك إلا قد أحسنت اختيار أمهما التي أنجبتهما لك , كأنك تزوجت ابنة قيصر حتى أنجبتهما لك في صيغتهما الملوكية من الحُسن والأدب والرونق.
فقال له مسلم : إذًا ماذا تقول لو أخبرتك أنني لا أحب إلا امرأة دميمة بدمامتها هي أحب الناس إليّ وأخفهن على قلبي ,وأصلحهن لي , ولا تساويها لا بنات قيصر ولا كسرى.
فاستعجب ابن أيمن لِما يسمع ودٌهش أيما دهشة وحزن أشد الحزن على أم الغلامين أن يكون هذا الرجل_والد الولدين_ قد فضّل وأحب تلك الدميمة وتركها هي بجمالها وحُسنها,فلم يستطع امساك نفسه وقال:والله لقد كفرت النعمة وغدرت وجحدت لأن أم هذين الغلامين فوق النساء إذ ظهر جمالها في ولديها .
فقال له مسلم بن عمران : والله إن الأمر كما ذركتُ لك فإني لا أحب إلا إمراة دميمة أنستني كل جميلة في النساء ولو جرأتُ ووصفتها لك لما خرج من فمي إلا كل لفظ قبيح لأصف لك مدى دمامتها , فهي ليست دميمة دمامة عادية بل هي في منتهى القبح, وليس لها في نفسي إلا الحب والحس الصادق.
فقال ابن أيمن: والله ماأظنك إلا شيطانا من الشياطين , وكيف تحتمل زوجتك حبك لتلك الدميمة, أهي بهيمة لا تعقل, أم أنت ساحر , أم فيك ما ليس في الناس , أم أنا لا افقه شيئا؟
فضحك مسلم وقال : إن لي خبرا عجيبا : كنت أتاجر مابين الأُبلّة والبصرة << مدينتان
وكنت أربح ولا أخسر , حتى كثر مالي , فأحببت أن أتوسع في تجارتي أكثر , وكنت شابا في أول هجمة الفتوة على الدنيا وأحب التعلم والأدب وجميل , فقلت لعلي أتاجر في الأفاق البعيدة فأرى الناس وعاداتهم وأتعلم علما وأعتبر بعبرة وفي نفس الوقت أتاجر وربما أجد الزوجة التي اشتهيها وأرغبها وكانت الصفات التي اريدها فيها تبلغ الغاية في كل شيء فلم أجدها لا في البصرة ولا في الأُبلّة , وجعلت أسافر من مكان إلى آخر حتى وصلت إلى بلخ << مدينة في أفغانستان وكان فيها عالم اسمه أبو عبد الله البلخي وكان من قبل عندنا في البصرة فلما سمعت عنه أردت أن أحضر له درسا لأنه قد كتب كتابا عنّا _أهل البصرة_ فدخلت وغذا به يتحدث عن أمر يهمني كثيرا , كان يتحدث عن جمال النساء , فسمعت منه كلاما لم أسمع ولم أقرأ مثله قط , حتى حفظته عن ظهر غيب من روعته. فقال ابن أيمن : والله لقد اشتقت لمعرفة ماقاله البلخي.
فقال مسلم: سمعت البلخي يتكلم عن الجمال والقبح فقال أولا من المعاني المهمة أن الجمال درجات , لكن الإسلام أصّل أصلا جديدا وهو أنه لا يسمي المرأة بالدمامة , نبقى نتحدث عن المرأة في درجات الجمال لا يمكن أن نحدث عنها في درجات القبح , لأنها مهما بلغت من صفات القبح تبقى جميلة وفيها من صفات الجمال, ثم قال أليست الجنة تحت أقدام الأمهات ؟!
فإذا كانت الجنة وهي أحسن مانعرف تحت أقدام امرأة , كيف يمكن أن تُوصف امرأة بأنها قبيحة أو دميمة, هل يجوز ذلك أدبا أو عقلا؟!
هل يستطيع انسان أن يصف أمه بأنها قبيحة؟!
تبقى الأم لأنها أم لها جمالها ويتعلق القلب بها حبا , فلا تُسمى دميمة حتى لو كانت كذلك , فهذا من الأدب والعقل.
ومن روعة الإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلّم وصّى بالنساء خيرا وهو في آخر حياته
فما زال يوصي بالنساء ويرفع شأنهن حتى كان آخر ما وصى به ثلاث كلمات، كان يتكلم بهن إلى أن تلجلج لسانه وخفى كلامه؛ جعل يقول : «الصلاة …الصلاة. وما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم مالا يطيقون؛ الله الله في النساء» .
قال الشيخ: كأن المرأة من حيث هي إنما هي صلاة تتعبد بها الفضائل، فوجبت رعايتها وتلقيها بحقها، وقد ذكر قبلها الرقيق، لأن الزواج بطبيعته نوع رق؛ ولكنه ختم بها وقد بدأ بالصلاة، لأن الزواج في حقيقته نوع عبادة.
قال الشيخ: ولو أن أماًّ كانت دميمة شوهاء في أعين الناس، لكانت مع ذلك في عين أطفالها أجمل من ملكة على عرشها؛
ثم قال الشيخ : إن الجمال الذي يقيس به الناس هو جمال الجسد , وبعض الناس قد يتعلق بامرأة لأنه رأى صورتها لم يرى الروح ولا الطباع ولا النفس ولا العقل وإنما رأى الجسد فقط, أليست هذه المسألة أقرب إلى البهيميةوالحيوانية لأنها مرتبطة بالغرائز والشهوات؟!
نحن لا نلغي الغرائز والشهوات وإنما هو جزء وليس كل شيئ.
ثم تابع الشيخ قوله :ولكن جمال المرأة الحقيقي هو في انسانيتها لا في حيوانيتها , فلو كانت المرأة بجسدها فقط عندها نكون قد نزلنا بالإنسان إلى درجة الحيوان , لأن القضية أصبحت جسد فقط.
أما المؤمن العاقل فهو الذي ينظر إلى معان أخرى شاملة للحياة بالإضافة إلى معان الجسد.
نحن لا نلغي مقاييس الجسد ولكن إذا كان هو الأساس والأهم عندنا عندها نكون أقرب إلى الحيوان.
ثم تابع الشيخ قوله: تخيلوا لو أن امرأة جسدها جميل لكن أخلاقها سيئة وعقلها جاهل وتصرفاتها هوجاء, وقارنوها بامرأة قد تكون مشوهة لكنها عاقلة وحكيمة وحبيبة ولطيفة ومراعية لزوجها,أيهم أقرب إلى النفس؟
إلا أصحاب النفوس المشوّهة المرتبطة بالحيوانية والغريزية.
إذًا فالمسألة قضية نسبية ولا بد ان ننظر إليها بهذين الأمرين.
فالمرأة مهما كانت جميلة فمصيرها أن تفقد هذا الجمال يوما , أي أنها لن تبقى بدرجة جمالها الخلابة.
لكن العقل والحكمة والروح والخلق هو الذي يبقى ويزداد مع الأيام في الغالب, فانظروا وتأملوا إلى بعد النظر وليس فقط إلى النظرة الحيوانية.
فالذي لا يرى من الجمال إلا الصورة فهذا إنسان ليس لديه بُعد نظر, ليست العينين هي التي تقرر أي الشيئين أجمل, لكن الحكم على الجمال ياتي من ثلاثة مصادر(العين والقلب والعقل)
فالعين قد لا تعجبها الصورة , ولكن القلب والعقل ثلثان وهما أعظم
(فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا).
فقام أحمد بن أيمن من مكانه بعدما سمع كلام الشيخ على لسان مسلم بن عمران ,وأخذ يدور في المجلس مما دخل قلبه ونفسه من روعة الحديث.
يقول مسلم بن عمران : فنظرت في شروطي في الزوجة التي أريدها , فإذا المقاييس انقلبت
فقلت: ان تزوجت يوما فما أبالي جمالا ولا قبحا بالعين , إنما اريد انسانية كاملة مني ومنها ومن أولادنا.
ثم رجعت إلى البصرة وقررت أسكن بها فزارني الناس , فبدأت أفكر أنني أريدها عاقلة رزينة ولكن أيضا لامانع ان كانت ذات حسب ونسب رفيع ليس شرطا أساسا ولكن إن توفر فهو خير , فبدأت أسأل فلم أجد أسرة حسيبة وصاحبة أموال مثل الأسرة التي منها جد هذين الولدين, فسالت هل عنده ابنة؟ فقالوا نعم ولكن هيهات أن يزوجكها فقد عرض كبار التجار أنفسهم عليها ولكن اباها رفضهم كلهم , فقلت في نفسي : لابد أن هذه الفتاة هي المثالية التي أبحث عنها من زمن,جميلة وصاحبة حسب ونسب , وقد بحثت عنها في كل مكان وهي قريبة مني في البصرة!
فقال أبو أيمن: قد علمنا خبرها وانك تزوجتها وانجبت لك هذين الغلامين في منتهى الجمال,
فماخبر تلك الدميمة التي أحببتها؟
فقال له مسلم : اصبر يارجل واسمع بقية القصة
فقال له أبو أيمن : هات ماعندك
فأكمل مسلم حديثه: فذهبت إلى هذا التاجر وقلت له أنا فلان بن فلان, وعرفته بنفسي , وقلت له أني أريد ابنته زوجة لي , فقال: أنا لا أستطيع أن أرد ولكنني أنصحك ألا تتزوجها, فتعجبت منه وسألته لماذا؟ فقال: ابنتي مكرمة ومعززة وتعيش ملكة في بيتها وأنا أخشى أنك لن تكرمها اكراما كافيا , فقلت له: سأكرمها ولها ماتريد فزوجنيها ,فقال لي : ابنتها لها مواصفات لا ترضيك فدعها في بيتها معززة , فازداد شوقي لأن أتزوجها, فقلت له : والله مهما كان فيها من صفات فأنا أريد أن أتزوجها فأهم ماأريده جمال النفس والخُلق,فوافقني وأتيته مع ملأ من التجار .
هنا قال له احمد بن أيمن: قد عرفنا والله خبرك مع هذه الحسناء فقل لنا خبر تلك الدميمة ولماذا أحببتها وفضلتها على هذه الحسيبة الجميلة؟!.
فقال له مسلم: مهلا فستنتهي القصة إليها, قد صبرت إلى الآن أفلا تصبر على كلمات تعرف بها من هذه الدميمة,فإني والله ماعرفتها إلا في العرس!
ثم أكمل:
وذهبت إليه مع ملأ من التجار فخطبنا وأكرم الضيوف ونحر لهم, ثم قال لي :إن أردت ان تدخل على زوجتك الآن فادخل ولا شيء يمنعك,فقلت له : هذا ما أحبه, وبعد ان ذهب الناس مازال يحدثني حتى جاء المغرب فصلى بي ثم , ثم بدأ يدعو ويدعو يدعو فتململت فكأن ابنته ستدخل إلى مصيبة لا عرس , ومازال يدعو حتى العشاء ثم قام وصلاها بي , وأخذ بيدي فأدخلني إلى دار قد فرشت بأحسن فرش، وبها خدم وجوار في نهاية من النظافة؛ فما استقر بي الجلوس حتى نهض وقال: أستودعك الله، وقدم الله لكما الخير وأحرز التوفيق.
ثم أقبل عليّ عجائز أصغرهن في الستين.
فصاح أحمد ابن أيمن: وهل دميمتك عجوز أيضا ....؟! ما أراك يابن عمران إلا قتلت أم الغلامين!
ثم أكم ابن عمران حديثه: ثم جاؤوا بزوجتي وأرخوا الستر علينا, وخلوت بزوجتي.
فصاح ابن أيمن وقد أكله الغيظ: لقد أطلت علينا، فستحكي لنا قصتك إلى الصباح، قد علمناها ويلك، فما خبر الدميمة الشوهاء؟
قال مسلم: لم تكن الدميمة الشوهاء إلا العروس!
فزاغت أعين الجماعة، وأطرق ابن أيمن إطراقة
ولكن الرجل مضى يقول: فقد كانت والله في منتهى القبح والدمامة ولكن لما نظرتها لم أر إلا ما كنت حفظته عن البلخي، ، وما أسرع ما قامت المسكينة فأكبت على يدي وقالت: ( يا سيدي، إني سر من أسرار والدي كتمه والدي وأفضى به إليك، إذ رآك أهلاً لستره عليه؛ فلا تخيب ظنه فيك، ولو كان الذي يُطلب من الزوجة حسن صورتها دون حسن تدبيرها وعفافها لعظمت محنتي، وأرجو من الله أن ترى من أخلاقي وعقلي مايغير نظرتك لي في حُسن الصورة وسأبلغ محبتك في كل ما تأمرني؛ ولو انك آذيتني لرأيت الأذى منك نعمة، فكيف إن وسعني كرمك وسترك؟ إنك لا تعامل الله بأفضل من أن تكون سبباً في سعادة بائسة مثلي. أفلا تحرص يا سيدي، على أن تكون هذا السبب الشريف )؟.
ثم قامت وجائتني بمال في كيس وقالت لي: استر عليّ وابقني زوجة لك وخذ هذا المال والجواهر والذهب وتزوج به ثلاثا فقد أباح الله لك ذلك.
والله لقد ملكت قلبي ملكاً لا تصل إليه حسناء بحسنها؛ فقلت لها: إن جزاء ما قدمت ما تسمعينه مني: ( والله لأجعلنك حظي من دنياي فيما يؤثره الرجل من المرأة ولأضربن على نفسي الحجاب ما تنظر نفسي إلى أنثى غيرك أبداً). ثم أتممتُ سرورها ، فحدثتها بما حفظته عن أبي عبد الله البلخي فأيقنت والله يا أحمد أنها نزلت مني في أرفع منازلها وجعلت تحسُن وتحسُن كالغصن الذي كان مجروداً ثم وخزته الخضرة من هنا وهناك.
وعاشرتها فهي أضبط النساء وأحسنهن تدبيراً وأشفقهن علي واجبهن لي وإذا راحتي وطاعتي أول أمرها وآخره وإذا عقلها وذكاؤها يظهران لي من جمال معانيها ما لا يزال يكثر ويكثر، فجعل القبح يقل ويقل وزال القبح باعتيادي رؤيته وبقيت المعاني على جمالها وصارت لي هذه الزوجة هي المرأة وفوق المرأة. ولما ولدت لي جاء ابنها رائع الصورة؛ فحدثتني أنها كانت لا تزال تتمنى على كرم الله وقدرته أن تتزوج وتلد أجمل الأولاد، ولم تدع ذلك من فكرها قط وألف لها عقلها صورة غلام تتمثله وما برحت تتمثله فإذا هي أيضاً كان لها شأن كشأني وكان فكرها عملاً يعمل في نفسها ويديرها ويصرفها .
ورزقني الله منها هذين الابنين الرائعين لك، فانظر؛ أي معجزتين من معجزات الإيمان. . !
فالقبح ليس قبح الجسد, ولكن القبح الحقيقي هو قبح العقل وقبح الروح وقبح الأخلاق وقبح العاطفة.
من كتاب وحي القلم لـــــ مصطفى الرافعي